الآية رقم (93 : 94)
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون }
يقول تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذباً} أي لا أحد أظلم ممن كذب على اللّه فجعل له شركاء أو ولداً، أو ادعى أن اللّه أرسله إلى الناس ولم يرسله، ولهذا قال تعالى: {أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء}، قال عكرمة وقتادة: نزلت في مسليمة الكذاب مسليمة: هو أبو ثمامة، ابن حبيب، من بني أثال وهو حنيفة، عرفوا بأمهم وهي بنت كاهل بن أسد بن خزيمة، وكان يزعم مسليمة أن جبريل ينزل عليه، وكان يتسمى بالرحمن، ومثله الأسود بن كعب الذي يعرف بعيهلة، وبذي الخمار، وكان يدعي أن ملكين: اسم أحدهما سحيق، والآخر شريق ، {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه} أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند اللّه من الوحي مما يفتريه من القول في اللباب : أخرج ابن جرير نزلت: {ومن أظلم ممن افترى على اللّه كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} في مسليمة، ونزلت: {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل اللّه} في عبد اللّه بن سعد، كان يكتب للنبي صلى اللّه عليه وسلم، فيغير فيما يمليه عليه الرسول، وعن السدي: أنه كان يقول: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إلي، وإن كان اللّه ينزله فقد أنزلت مثل ما أنزل. قال محمد: سميعاً عليماً، فقلت أنا: عليماً حكيماً ، كقوله تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} الآية. قال اللّه تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} أي في سكراته وغمراته وكرباته، {والملائكة باسطوا أيديهم} أي بالضرب، كقوله: {لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني} الآية، وقوله: {يبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء} الآية، وقال الضحاك: {باسطوا أيديهم} أي بالعذاب، كقوله: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم}، ولهذا قال: {والملائكة باسطوا أيديهم} أي بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم، ولهذا يقولون لهم: {أخرجوا أنفسكم}، وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: {أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على اللّه غير الحق} الآية، أي اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على اللّه وتستكبرون اتباع آياته والانقياد لرسله، وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر، وهي مقررة عند قوله تعالى: {يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة}.
وقوله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة}، أي يقال لهم يوم معادهم في اللباب : أخرج ابن جرير وغيره: قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى، فنزلت هذه الآية هذا، كما قال: {وعرضوا على ربك لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة} أي كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه فهذا يوم البعث، وقوله: {وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} أي من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا وراء ظهوركم، وثبت في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس) وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بزج فيقول اللّه عزَّ وجلَّ: أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول له: يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئاً، وتلا هذه الآية: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} الآية، وقوله: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثم معاد، فإن كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب وانزاح الضلال، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب جلَّ جلاله على رؤوس الخلائق: {أين شركائي الذين كنتم تزعمون؟} ويقال لهم: {أين ما كنتم تعبدون من دون اللّه هل ينصرونكم أو ينتصرون؟} ولهذا قال ههنا: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} أي في العبادة، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم، ثم قال تعالى: {لقد تقطع بينكم} قرىء بالرفع أي شملكم، وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل، {وضل عنكم} أي ذهب عنكم، {ما كنتم تزعمون} من رجاء الأصنام والأنداد، كقوله تعالى: {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب}، وقال تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون}، وقال تعالى: {ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم النار وما لكم من ناصرين}، وقال: {وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم} الآية، والآيات في هذا كثيرة.
الآية رقم (95 : 97)
{ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون . فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم . وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون }
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى، أي يشقه في الثرى فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعمومها من النوى، ولهذا فسر قوله: {فالق الحب والنوى}، بقوله: {يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي} أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت كقوله: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون}، وقوله: {ومخرج الميت من الحي} معطوف على {فالق الحب والنوى}، وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى، فمن قائل يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه، ومن قائل يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه، وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها؛ ثم قال تعالى: {ذلكم اللّه} أي فاعل هذا هو اللّه وحده لا شريك له، {فأنّى تؤفكون} أي كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون معه غيره؟ وقوله: {فالق الإصباح وجعل الليل سكناً} أي خالق الضياء والظلام كما قال في أول السورة {وجعل الظلمات والنور} أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح فيضيء الوجود، ويستنير الأفق، ويضمحل الظلام، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه، كقوله: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً}، فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه، فذكر أنه فالق الإصباح، وقابل ذلك بقوله: وجعل الليل سكناً} أي ساجياً مظلماً لتسكن فيه الأشياء كما قال: {والضحى والليل إذا سجى}، وقال: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى}، وقال: {والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها}، وقال صهيب الرومي رضي اللّه عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره: إن اللّه جعل الليل سكناً، إلا لصهيب، إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه، وإذا ذكر النار طار نومه "رواه ابن أبي حاتم". وقوله: {والشمس والقمر حسباناً} أي يجريان بحساب مقنن مقدر لا يتغير ولا يضطرب، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً كما قال: {هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل} الآية، وكما قال: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}، وقال: {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره}، وقوله: {ذلك تقدير العزيز العليم} أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكثيراً ما إذا ذكر اللّه تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم}، ولما ذكر خلق السموات الأرض وما فيهن في أول سورة حم السجدة قال: {وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً، ذلك تقدير العزيز العليم}، وقوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر}، قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على اللّه سبحانه: أن اللّه جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر. وقوله: {قد فصلنا الآيات} أي قد بيناها ووضحناها {لقوم يعلمون} أي يعقلون ويعرفون الحق ويتجنبون الباطل.
الآية رقم (98 :99)
{ وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون . وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون }
يقول تعالى: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة} يعني آدم عليه السلام، كما قال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء}، وقوله: {فمستقر ومستودع} اختلفوا في معنى ذلك: فعن ابن مسعود {فمستقر}: أي في الأرحام {ومستودع} أي في الأصلاب وهو قول كثير من السلف منهم ابن عباس ومجاهد وعطاء والنخعي والضحّاك وقتاده والسدي وغيرهم ، وعن ابن مسعود وطائفة: فمستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت، وقال سعيد بن جبير: فمستقر في الأرحام وعلى ظهر الأرض وحيث يموت، وقال الحسن البصري: المستقر الذي مات فاستقر به عمله، وعن ابن مسعود: ومستودع في الدار الآخرة، والقول الأول هو الأظهر، واللّه أعلم. وقوله تعالى: {قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} أي يفهمون ويعون كلام اللّه ومعناه، وقوله تعالى: {وهو الذي أنزل من السماء ماء} أي بقدر مباركاً ورزقاً للعباد وإحياء وغياثاً للخلائق، رحمة من اللّه بخلقه {فأخرجنا به نبات كل شيء}، كقوله: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}، {فأخرجنا منه خضراً} أي زرعاً وشجراً أخضر، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر. ولهذا قال تعالى: {نخرج منه حباً متراكباً} أي يركب بعضه على بعض كالسنابل ونحوها {ومن النخل من طلعها قنوان} أي جمع قنو وهي عذوق الرطب، {دانية} أي قريبة من المتناول، كما قال ابن عباس {قنوان دانية} يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض رواه ابن جرير.
وقوله تعالى: {وجنات من أعناب} أي ونخرج منه جنات من أعناب، وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز، وربما كانا خيار الثمار في الدنيا، كما امتن اللّه بهما على عباده في قوله تعالى: {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً}، وكان ذلك قبل تحريم الخمر، وقال: {وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب}، وقوله تعالى: {والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه}، قال قتادة وغيره: متشابه في الورق والشكل قريب بعضه من بعض، ومتخالف في الثمار شكلاً وطعماً وطبعاً، {انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه} أي نضجه، قال البراء وابن عباس والضحاك وغيرهم، أي فكروا في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود بعد أن كان حطباً صار عنباً ورطباً، وغير ذلك مما خلق سبحانه وتعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح كقوله تعالى: {يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل} الآية، ولهذا قال ها هنا: {إن في ذلكم} أيها الناس {لآيات} أي دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحمكته ورحمته {لقوم يؤمنون} أي يصدقون به ويتبعون رسله.
الآية رقم (100)
{ وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون }
هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع اللّه غيره وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن فجعلوهم شركاء له في العبادة، تعالى اللّه عن شركهم وكفرهم. فإن قيل: فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب أنهم ما عبدوها إلا عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك، كقوله: {إن يدعون من دونه إلا إناثاً وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه اللّه وقال: لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام} الآية، وكقوله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني} الآية، وقال إبراهيم لأبيه: {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً}، وكقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} ولهذا قال تعالى: {وجعلوا للّه شركاء الجن وخلقهم} أي وقد خلقهم فهو الخالق وحده لا شريك له فكيف يعبد معه غيره؟ كقول إبراهيم: {أتعبدون ما تنحتون واللّه خلقكم وما تعملون} ومعنى الآية أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له. وقوله تعالى: {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} ينبه به تعالى على ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولداً، كما يزعم من قاله من اليهود في عزير، ومن قال من النصارى في عيسى، ومن قال من مشركي العرب في الملائكة إنها بنات اللّه {تعالى اللّه عما يقول الظالمون علواً كبيراً}. ومعنى {خرقوا} أي اختلقوا واتفكوا وتخرصوا وكذبوا كما قال علماء السلف وقال ابن عباس {وخرقوا} يعني تخرصوا، وقال العوفي عنه {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} قال: جعلوا له بنين وبنات، وقال مجاهد: كذبوا، وقال الضحاك: وضعوا، وقال السدي: قطعوا، قال ابن جرير: وتأويله إذاً: وجعلوا للّه الجن شركاء في عبادتهم إياهم، وهو المتفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير، {وخرقوا له بنين وبنات بغير علم} بحقيقة ما يقولون ولكن جهلاً باللّه وبعظمته، فإنه لا ينبغي لمن كان إلهاً أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة، ولا أن يشركه في خلقه شريك، ولهذا قال: {سبحانه وتعالى عما يصفون} أي تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد والنظراء والشركاء.
الآية رقم (101)
{ بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم }
بديع السماوات والأرض} أي مبدعهما وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق، ومنه سميت البدعة بدعة، لأنه لا نظير لها فيما سلف، {أنّى يكون له ولد} أي كيف يكون له ولد {ولم تكن له صاحبة} أي والولد إنما يكون متولداً بين شيئين متناسبين، واللّه تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه لأنه خالق كل شيء، فلا صاحبة له ولا ولد كما قال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدَّاً}، {وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم}، فبين تعالى أنه الذي خلق كل شيء وأنه بكل شيء عليم، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه وهو الذي لا نظير له، فأنى يكون له ولد؟ تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً.
الآية رقم (102 : 103)
{ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل . لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير }
يقول تعالى: {ذلكم اللّه ربكم} أي الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة، {لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه} أي فاعبدوه وحده لا شريك له، وأقروا له بالوحدانية، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا ولد له ولا والد ولا صاحبة له، ولا نظير ولا عديل {وهو على كل شيء وكيل} أي حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلأهم بالليل والنهار. وقوله: {لا تدركه الأبصار} فيه أقوال للأئمة من السلف أحدها : لا تدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة، كما تواترات به الأخبار عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب على اللّه، فإن اللّه تعالى قال: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}، وخالفها ابن عباس، فعنه: إطلاق الرؤية، وعنه: أنه رآه بفؤاده مرتين، والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء اللّه، وقال يحيى بن معين سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول اللّه تعالى: {لا تدركه الأبصار} قال هذا في الدنيا، وقال آخرون: {لا تدركه الأبصار} أي جميعها، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة، وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة، فخالفوا أهل السنّة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب اللّه وسنّة رسوله، أما الكتاب فقوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة}، وقال تعالى عن الكافرين: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون}، قال الإمام الشافعي: فدل هذا على أن المؤمينن لا يحجبون عنه تبارك وتعالى، أما السنّة فقد تواترت الأخبار عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : أن المؤمنين يرون اللّه في الدار الآخرة في العرصات، وروضات الجنات، جعلنا اللّه تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.
وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أخص من الرؤية، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم، ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل معرفة الحقيقة، فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون، كما أن من رأى القمر، فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته، فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى، وقال آخرون: الإدراك هو الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم، قال تعالى: {ولا يحيطون به علماً}، وفي صحيح مسلم: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، ولا يلزم منه عدم الثناء، فكذلك هذا. قال ابن عباس {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} قال: لا يحيط بصر أحد بالملك، وعن عكرمة أنه قيل له: {لا تدركه الأبصار} قال: ألست ترى السماء؟ قال: بلى، قال: فكلها ترى؟ وقال قتادة: هو أعظم من أن تدركه الأبصار، وقال ابن جرير عن عطية العوفي في قوله تعالى: {وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} قال: هم ينظرون إلى اللّه لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره محيط بهم، فذلك قوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}.
وقال آخرون في الآية عن عكرمة قال، سمعت ابن عباس يقول: رأى محمد ربه تبارك وتعالى، فقلت: أليس اللّه يقول: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} الآية، فقال لي: لا أمَّ لك، ذلك نوره الذي هو نوره، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء. وفي رواية: لا يقوم له شيء "رواه الترمذي وابن مردويه والحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه مرفوعاً: (إن اللّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل الليل، وعمل الليل قبل النهار، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وفي الكتب المتقدمة: إن اللّه تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده: أي تدعثر، وقال تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}، ونفي الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة، يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس وتنزه، فلا تدركه الأبصار، ولهذا كانت أم المؤمينن عائشة رضي اللّه عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة، وتنفيها في الدنيا، وتحتج بهذه الآية: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}، فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه، فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشيء. وقوله: {وهو يدرك الأبصار} أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه لأنه خلقها، كما قال تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}، وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين كما قال السدي في قوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} لا يراه شيء وهو يرى الخلائق، وقال أبو العالية {وهو اللطيف الخبير} اللطيف لاستخراجها، الخبير بمكانها، واللّه أعلم.
الآية رقم (104 : 105)
{ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ . وكذلك نصرِّف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون }
البصائر: هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن وما جاء به الرسول صلى اللّه عليه وسلم، {فمن أبصر فلنفسه} كقوله: {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها}، ولهذا قال: {ومن عمي فعليها} لما ذكر البصائر قال: {ومن عمي فعليها} أي إنما يعود وباله عليه، كقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}، {وما أنا عليكم بحفيظ} أي بحافظ ولا رقيب، بل إنما أنا مبلغ واللّه يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وقوله: {وكذلك نصرّف الآيات} أي فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين، وليقول المشركون والكافرون المكذبون دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب، وقارأتهم، وتعلمت منهم وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحّاك وغيرهم . روي عن عمرو بن كيسان قال، سمعت ابن عباس يقول: دارست: تلوت خاصمت جادلت، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم: {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها} الآية، وقال تعالى إخباراً عن زعيمهم وكاذبهم {إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر}، وقوله: {ولنبيّنه لقوم يعلمون} ولنوضحنه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه، والباطل فيجتنبونه، فللّه تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء، كقوله تعالى: {يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً} الآية، وكقوله: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن اللّه لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم}.
وقال تعالى: {كذلك يضل اللّه من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو}، وقال: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً}، وقال تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى}، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين وأنه يضل به من يشاء ويهدي به من يشاء، ولهذا قال ها هنا: {وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون}، وقرأ بعضهم {درسْتَ} أي قرأت وتعلمت وهو مروي عن ابن عباس ومجاهد والسدُّي والضحّاك ، قال الحسن {وليقولوا دَرَسَتْ} يقول: تقادمت وانمحت، وقال عبد الرزاق إن صبياناً يقرأون {دارست} وإنما هي درست. وقال شعبة هي في قراءة ابن مسعود: دَرَسَت، يعني بغير ألف بنصب السين ووقف على التاء، قال ابن جرير ومعناه: انمحت وتقادمت، أي أن هذا الذي تتلوه علينا قد مر بنا قديماً وتطاولت مدته.
الآية رقم (106 :107)
{ اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين . ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل }
يقول تعالى آمراً لرسوله صلى اللّه عليه وسلم ولمن اتبع طريقته: {اتبع ما أوحي إليك من ربك} أي اقتد به واقتف أثره واعمل به، فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه لأنه لا إله إلا هو {وأعرض عن المشركين} أي اعف عنهم واصفح واحتمل أذاهم حتى يفتح اللّه لك وينصرك ويظفرك عليهم، واعلم أن للّه حكمة في إضلالهم، فإنه لو شاء لهدى الناس جميعاً، ولو شاء لجمعهم على الهدى {ولو شاء اللّه ما أشركوا}، أي بل له المشيئة والحكمة فيما يختاروه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وقوله تعالى: {وما جعلناك عليهم حفيظاً} أي حافظاً تحفظ أقوالهم وأعمالهم، {وما أنت عليهم بوكيل} أي موكل على أرزاقهم وأمورهم، {إن عليك إلا البلاغ}، كما قال تعالى: {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر}، وقال: {إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}.
الآية رقم (108)
{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون }
يقول اللّه تعالى ناهياً لرسوله صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو {اللّه لا إله إلا هو}، كما قال ابن عباس في هذه الآية: قالوا: يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك، فنهاهم اللّه أن يسبوا أوثانهم، {فيسبوا اللّه عدواً بغير علم}، وقال قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار اللّه عدواً بغير علم، فأنزل اللّه: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون اللّه}، وروى ابن جرير عن السدي أنه قال: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعهم، فلما مات قتلوه، فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل والنضر بن الحارث، وأمية وأُبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البختري، وبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب، قالوا: استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه فدخلوا، فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندعه وإلهه، فدعاه فجاء النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : )ما تريدون؟) قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج)؟ قال أبو جهل: وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها، قالوا: فما هي؟ قال: (قولوا لا إله إلا اللّه)، فأبوا واشمأزوا، قال أبو طالب: يا ابن أخي، قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال: (يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها) إرادة أن يؤيسهم، فغضبوا، وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك، فذلك قوله: {فيسبوا اللّه عدواً بغير علم} ومن هذا القبيل، وهو ترك المصلحة لمفسدة أرحج منها، ما جاء في الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ملعون من سب والديه)، قالوا: يا رسول اللّه وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه(، أو كما قال صلى اللّه عليه وسلم . وقوله: {كذلك زينا لكل أمة عملهم} أي وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم والمحاماة لها والانتصار {كذلك زينا لكل أمة} أي من الأمم الخالية على الضلال {عملهم} الذي كانوا فيه، وللّه الحجة البالغة والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره {ثم إلى ربهم مرجعهم} أي معادهم ومصيرهم {فينبئهم بما كانوا يعملون} أي يجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
الآية رقم (109 : 110)
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون }
يقول تعالى إخباراً عن المشركين أنهم أقسموا باللّه جهد أيمانهم أي حلفوا أيماناً مؤكدة {لئن جاءتهم آية} أي معجزة وخارق {ليؤمنن بها} أي ليصدقنها، {قل إنما الآيات عند اللّه} أي قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتاً وكفراً وعناداً لا على سبيل الهدى والاسترشاد، إنما مرجع هذه الآيات إلى اللّه إن شاء جاءكم بها وإن شاء ترككم، قال ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: كلم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قريش فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (أي شيء تحبون أن آتيكم به؟) قالوا: تجعل لنا الصفا ذهباً، فقال لهم: (فإن فعلت تصدقوني)؟ قالوا: نعم واللّه لئن فعلت لنتبعك أجمعون، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام، فقال له: ما شئت، إن شئت أصبح الصفا ذهباً، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (بل يتوب تائبهم)، فأنزل اللّه تعالى: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم} إلى قوله تعالى: {ولكن أكثرهم يجهلون} "قال ابن كثير: وهذا مرسل وله شواهد من وجوه أخر"، وقال اللّه تعالى: {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} الآية، وقوله تعالى: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون}، قيل المخاطب بما يشعركم، المشركون، وإليه ذهب مجاهد وقيل: المخاطب بقوله: {وما يشعركم} المؤمنون، ويقول: وما يدريكم أيها المؤمنون أنها إذا جاءت لا يؤمنون. وقوله تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}، قال ابن عباس في هذه الآية: لما جحد المشركون ما أنزل اللّه لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر. وقال مجاهد في قوله {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم}: ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة، وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: أخبر اللّه ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه، وقال: {ولا ينبئك مثل خبير} جل وعلا {أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب اللّه} إلى قوله: {لو أن لي كرة فأكون من المحسنين} فأخبر اللّه سبحانه وتعالى أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى، وقال: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون}، وقال تعالى: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة}، وقال: ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا، وقوله: {ونذرهم} أي نتركهم {في طغيانهم}، قال ابن عباس والسدي: في كفرهم. وقال أبو العالية وقتادة: في ضلالهم {يعمهون} قال الأعمش يلعبون، وقال ابن عباس ومجاهد: في كفرهم يترددون.
الآية رقم (111)
{ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون }
يقول تعالى ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فنزلنا عليهم الملائكة تخبرهم بالرسالة من اللّه بتصديق الرسل كما سألوا فقالوا: {أو تأتي باللّه والملائكة قبيلاً} و{قالوا لن نؤمن لك حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه}، {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا نزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً}، {وكلمهم الموتى} أي فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، {وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً}، قرأ بعضهم قِبَلاً بكسر القاف وفتح الباء من المقابلة والمعاينة، وقرأ آخرون بضمهما قيل: معناه من المقابلة والمعاينة أيضاً كما رواه العوفي عن ابن عباس، وقال مجاهد: قبلاً أي أفواجاً قبيلاً قبيلاً أي تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فيخبرونهم بصدق الرسل فيما جاءوهم به {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه} أي إن الهداية إليه لا إليهم بل يهدي ويضل من يشاء وهو الفعال لما يريد {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} لعلمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته. وهذه الآية كقوله تعالى: {إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم}.
الآية رقم (112 : 113)
{ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون . ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون }
يقول تعالى: وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك، جعلنا لكل نبي من قبلك أيضاً أعداء فلا يحزنك ذلك، كما قال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا} الآية، وقال تعالى: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}، وقال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} الآية. وقال ورقة بن نوفل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلاَّ عودي) "هذا جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في صحيحه في باب بدء الوحي"، والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء قبحهم اللّه ولعنهم، قال عبد الرزاق عن قتادة في قوله {شياطين الإنس والجن} قال: من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض. قال قتادة: وبلغني أن أبا ذر كان يوماً يصلي فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (تعوذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن) فقال: أو إن من الإنس شياطين؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (نعم) "قال ابن كثير: هذا منقطع بين قتادة وأبي ذر". وقال ابن جرير عن أبي ذر قال: أتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس قال، فقال: (يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا، يا رسول اللّه. قال: (قم فاركع ركعتين) قال: ثم جئت فجلست إليه، فقال: (يا أبا ذر هل تعوذت باللّه من شياطين الجن والإنس)؟ قال، قلت: لا يا رسول اللّه وهل للإنس من شياطين؟ قال: (نعم هم شر من شياطين الجن) "وهذا أيضاً فيه انقطاع وروي متصلاً عن أحمد وابن مردويه بمثله".
طريق أخرى للحديث روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يا أبا ذر تعوذت من شياطين الجن والإنس)؟ قال: يا رسول اللّه وهل للإنس من شياطين؟ قال: (نعم: {شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} "أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي أمامة مرفوعاً"، فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته، واللّه أعلم، وعن عكرمة في قوله: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} قال: للإنس شياطين وللجن شياطين، فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، وقال السدي عن عكرمة: أما شياطين الإنس فالشياطين التي تضل الإنس، وشياطين الجن التي تضل الجن، يلتقيان فيقول كل واحد منهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضاً "رواه ابن جرير"، وقد روي نحو هذا عن ابن عباس فقال: إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، قال: فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا، أضلله بكذا، فهو قوله: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً}. ولما أخبر عبد اللّه بن عمر أن المختار المراد بالمختار هنا ابن عبيد قبحه اللّه الذي كان يزعم أنه يأتيه الوحي يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق، قال اللّه تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم}.
وقوله تعالى: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره، {ولو شاء ربك ما فعلوه} أي وذلك كله بقدر اللّه وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء، {فذرهم} أي فدعهم، {وما يفترون} أي يكذبون. أي دع أذاهم وتوكل على اللّه فإن اللّه كافيك وناصرك عليهم. وقوله تعالى: {ولتصغى إليه} أي ولتميل إليه قاله ابن عباس، {أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة} أي قلوبهم وعقولهم وأسماعهم، وقال السدي: قلوب الكافرين {وليرضوه} أي يحبوه ويريدوه، وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى: {فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم}، وقال تعالى: {إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك}، وقوله: {وليقترفوا ما هم مقترفون}، قال ابن عباس، وليكتسبوا ما هم مكتسبون، وقال السدي وابن زيد: وليعملوا ما هو عاملون.
الآية رقم (114 : 115)
{ أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين . وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم }
يقول اللّه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين باللّه الذين يعبدون غيره {أفغير اللّه أبتغي حكماً}؟ أي بيني وبينكم، {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} أي مبيناً، {والذين آتيناهم الكتاب} أي من اليهود والنصارى يعلمون أنه منزل من ربك بالحق أي بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين، {فلا تكونن من الممترين}، كقوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} وهذا شرط، والشرط لا يقتضى وقوعه، ولهذا جاء عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (لا أشك ولا أسأل)، وقوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً}، قال قتادة: صدقاً فيما قال، وعدلاً فيما حكم، يقول: صدقاً في الأخبار وعدلاً في الطلب، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه، ولا شك، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه، وكل ما نهى عنه فباطل، فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة، كما قال تعالى: {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر} إلى آخر الآية، {لا مبدل لكلماته} أي ليس أحد يعقب حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة {وهو السميع} لأقوال عباده {العليم} بحركاتهم وسكناتهم الذي يجازي كل عامل بعمله.
الآية رقم (116 : 117)
{ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون . إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين }
يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال كما قال تعالى: {ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين}، وقال تعالى: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل {إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون}، فإن الخرص هو الحزر ومنه خرص النخل وهو حزر ما عليها من التمر، وذلك كله عن قدر اللّه ومشيئته {هو أعلم من يضل عن سبيله} فييسره لذلك، {وهو أعلم بالمهتدين} فييسرهم لذلك وكل ميسر لما خلق له.
الآية رقم (118 : 119)
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين . وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين }
هذا إباحة من اللّه لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه، ومفهومه أنه لا يباح ما لم يذكر اسم اللّه عليه، كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات وأكل ما ذبح على النصب وغيرها، ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم اللّه عليه فقال: {وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم اللّه عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم} أي قد بين لكم ما حرم عليكم ووضحه {إلا ما اضطررتم إليه} أي إلا في حال الاضطرار، فإنه يباح لكم ما وجدتم. ثم بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم اللّه تعالى، فقال: {وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين} أي هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.
الآية رقم (120)
{ وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون }
قال مجاهد: {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} المعصية في السر والعلانية، وقال قتادة: أي سره وعلانيته، قليله وكثيره، وقال السدي: ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات، وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان، وقال عكرمة: ظاهره نكاح ذوات المحارم. والصحيح أن هذه الآية عامة في ذلك كله، وهي كقوله: {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} الآية، ولهذا قال تعالى: {إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون} أي سواء كان ظاهراً أو خفياً، فإن اللّه سيجزيهم عليه، عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الإثم فقال: (الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع الناس عليه) "رواه ابن أبي حاتم عن النواس بن سمعان".
الآية رقم (121)
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون }
استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم اللّه عليها وإن كان الذابح مسلماً، وقد اختلف الأئمة رحمهم اللّه في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة وسواء ترك التسمية عمداً أو سهواً وهو مروي عن ابن عمر ونافع والشعبي ومحمد بن سيرين، وهو رواية عن الإمام مالك وأحمد بن حنبل، وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية وبقوله في آية الصيد: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه}، ثم أكد في هذه الآية بقوله: {وإنه لفسق}، والضمير قيل: عائد على الأكل وقيل: عائد على الذبح لغير اللّه، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديثي عدي بن حاتم: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه عليه فكل مما أمسك عليك وهو في الصحيحين، وحديث رافع بن خديج: ما أنهر الدم وذكر اسم اللّه عليه فكلوه) وهو في الصحيحين أيضاً، وحديث ابن مسعود أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال للجن: (لكم كل عظم ذكر اسم اللّه عليه) "رواه مسلم"؛ وعن عائشة رضي اللّه عنها أن ناساً قالوا: يا رسول اللّه إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم اللّه عليه أم لا؟ قال: (سموا عليه أنتم وكلوا) قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر "رواه البخاري". ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم، فأمرهم بالاحتياط عند التسمية عند الأكل لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد، واللّه أعلم.
والمذهب الثاني في المسألة: أنه لا يشترط في التسمية، بل هي مستحبة، فإن تركت عمداً أو نسياناً لا يضر، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه اللّه وجميع أصحابه، ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل، وهو رواية عن الإمام مالك، وحمل الشافعي الآية الكريمة: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وإنه لفسق} على ما ذبح لغير اللّه كقوله تعالى: {أو فسقاً أهّل لغير اللّه به}، وقال عطاء {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه} ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان وينهى عن ذبائح المجوس، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي، وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه} قال: هي الميتة. وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم اللّه أم لم يذكر إنه إن ذكر، لم يذكر إلا اسم اللّه) وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: (إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم اللّه فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء اللّه)، واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي اللّه عنها المتقدم أن ناساً قالوا: يا رسول اللّه إن قوماً حديثي عهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم اللّه عليه أم لا؟ فقال:(سموا أنتم وكلوا ) قال: فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلا مع تحققها واللّه أعلم.
المذهب الثالث في المسألة: إن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر، وإن تركها عمداً لم تحل، هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد وبه يقول أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه وهو مروي عن علي وابن عباس وطاووس والحسن البصري وغيرهم ، وقال ابن جرير رحمه اللّه: من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول جميع الحجة، وخالف الخبر الثابت عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك، يعني ما رواه الحافظ البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم اللّه وليأكله) "قال ابن كثير: هذا الحديث رفعه خطأ، أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزري والأصح أنه من قول ابن عباس"، ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين: أنهما كرها متروك التسمية نسياناً، والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيراً، واللّه أعلم، إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الإثنين مخالفاً لقول الجمهور فيعده إجماعاً، فليعلم هذا، واللّه الموفق. واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : (إن اللّه وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال يا رسول اللّه: أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (اسم اللّه على كل مسلم) "الحديث إسناده ضعيف كما نبه عليه ابن كثير رحمه اللّه".
وقوله تعالى: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم}، قال ابن أبي حاتم عن أبي زميل قال: كنت قاعداً عند ابن عباس وحج المختار بن أبي عبيد فجاءه رجل، فقال: يا ابن عباس زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة، فقال ابن عباس: صدق، فنفرت، وقلت: يقول ابن عباس صدق؟ فقال ابن عباس: هما وحيان، وحي اللّه، ووحي الشيطان، فوحي اللّه إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم، ووحي الشيطان إلى أوليائه، ثم قرأ: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} "أخرجه ابن أبي حاتم". وقد تقدم عن عكرمة في قوله: {يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} نحو هذا. وقوله: {ليجادلوكم}، عن سعيد بن جبير قال: خاصمت اليهود النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل اللّه؟ فأنزل اللّه: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وإنه لفسق}، وعن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه} أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً وقولوا له: فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح اللّه عزَّ وجلَّ بشمشير من ذهب يعني الميته فهو حرام؟ فنزلت هذه الآية: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} "رواه الطبراني من حديث الحكم بن أبان"أي وإن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش، وقال أبو داود عن ابن عباس في قوله: {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} يقولون: ما ذبح اللّه فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل اللّه: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه} "رواه أبو داود وابن ماجه، قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح"، وقال السدي في تفسير هذه الآية: إن المشركين قالوا للمسلمين: كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة اللّه فما قتل اللّه فلا تأكلونه وما ذبحتم أنتم تأكلونه؟ فقال اللّه تعالى: وإن أطعتموهم - في أكل الميتة {إنكم لمشركون} وهكذا قال مجاهد والضحاك وغير واحد من علماء السلف. وقوله تعالى: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} أي حيث عدلتم عن أمر اللّه لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره، فهذا هو الشرك، كقوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه} الآية، وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول اللّه ما عبدوهم، فقال: (بلى إنهم أحلوا لهم الحرام، وحرموا عليهم الحلال، فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم)
الآية رقم (122)
{ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون }
هذا مثل ضربه اللّه تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً، فأحياه اللّه، أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه ووفقه لاتباع رسله، {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس} أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به، والنور هو القرآن، كما روي عن ابن عباس، وقال السدي: الإسلام، والكل صحيح، {كمن مثله في الظلمات} أي الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة {ليس بخارج منها} أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه.
وفي الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (إن اللّه خلق خلقة في ظلمة، ثم رش عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل) "رواه أحمد في المسند"، كما قال تعالى: {اللّه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، وقال تعالى: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أم يمشي سوياً على صراط مستقيم}؟ وقال تعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصمّ والبصير والسميع هل يستويان مثلاً أفلا تذكرون}، وقال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن اللّه يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير}، والآيات في هذه كثيرة، ووجه المناسبة في ضرب المثلين ههنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة {وجعل الظلمات والنور}، وزعم بعضهم: أن المراد بهذا المثل رجلان معينان، فقيل عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتاً فأحياه اللّه وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وقيل: عمار بن ياسر، وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها أبو جهل عمرو بن هشام لعنه اللّه. والصحيح أن الآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر، وقوله تعالى: {كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون} أي حسنَّا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة قدراً من اللّه وحكمة بالغة، لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
الآية رقم (123 : 124)
{ وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون . وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون }
يقول تعالى: وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين، ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل اللّه وإلى مخالفتك وعداوتك، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك، ثم تكون لهم العاقبة، كما قال تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين} الآية، وقوله تعالى: {أكابر مجرميها ليمكروا فيها}، قال ابن عباس: سلطنا شرارهم فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب. وقال مجاهد وقتادة: {أكابر مجرميها} عظماؤها، قلت: وهكذا قوله تعالى: {وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون}، وقوله تعالى: {وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} والمراد بالمكر ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال، كقوله تعالى إخباراً عن قوم نوح: {ومكروا مكراً كباراً}، وقوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين}، قال سفيان: كل مكر في القرآن فهو عمل، وقوله تعالى: {وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} أي وما يعود وبال مكرهم وإضلالهم إلا على أنفسهم، كما قال تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم}، وقال: {ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون}. وقوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه} أي إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه} أي حتى تأتينا الملائكة من اللّه بالرسالة كما تأتي إلى الرسل، كقوله جلَّ وعلا: {وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا} الآية.
وقوله تعالى: {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه، كقوله تعالى: {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك} الآية، يعنون لو نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم {من القريتين} أي مكة والطائف، وذلك أنهم قبحهم اللّه كانوا يزدرون بالرسول صلوات اللّه وسلامه عليه بغياً وحسداً، وعناداً واستكباراً، كقوله تعالى مخبراً عنه: {وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزواً، أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون}، وقال تعالى: {وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزواً أهذا الذي بعث اللّه رسولاً}، وقال تعالى: {ولقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون}، هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه، وطهارة بيته ومرباه، ومنشئه صلى اللّه وملائكته والمؤمنون عليه، حتى إنهم يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه (الأمين)، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم: وكيف نسبه فيكم؟ قال: هو فينا ذو نسب، قال: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا.. الحديث بطوله الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به، وقال الإمام أحمد عن وائلة بن الأسقع رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إن اللّه اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم) "رواه مسلم وأحمد"، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه) وقال الإمام أحمد قال العباس: بلغه صلى اللّه عليه وسلم بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فقال: (من أنا؟) قالوا أنت رسول اللّه، فقال: (أنا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب، إن اللّه خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً( صدق صلوات اللّه وسلامه عليه.
وفي الحديث أيضاً المروي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (قال لي جبريل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم) "رواه الحاكم والبيهقي"، وقال الإمام أحمد عن عبد اللّه بن مسعود قال: إن اللّه نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلوون عن دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند اللّه سيء "أخرجه الإمام أحمد عن ابن مسعود موقوفاً". وأبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد، فلما نظر إليه راعه فقال: من هذا؟ قالوا: ابن عباس ابن عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: {اللّه أعلم حيث يجعل رسالته} "أخرجه ابن أبي حاتم"، وقوله تعالى: {سيصيب الذين أجرموا صغار عند اللّه وعذاب شديد} الآية، هذا وعيد شديد من اللّه وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاءوا به، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي اللّه {صغار} وهو الذلة الدائمة كما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا، كقوله تعالى: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} أي صاغرين ذليلين حقيرين. وقوله تعالى: {وعذاب شديد بما كانوا يمكرون} لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً وهو التلطف في التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من اللّه يوم القيامة جزاء وفاقاً {ولا يظلم ربك أحداً}، كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر} أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر، وجاء في الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: (ينصب لكل لواء غادر لواء عند أسته يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان)، والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل.
الآية رقم (125)
{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون }
يقول تعالى: {فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام} أي ييسره له وينشطه ويسهله لذلك، فهذه علامات على الخير، كقوله تعالى: {أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نور من ربه} الآية، وقال تعالى: {ولكنّ اللّه حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم}، وقال ابن عباس معناه يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وهو ظاهر. سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أي المؤمنين أكيس؟ قال: (أكثرهم ذكراً للموت وأكثرهم لما بعده استعداداً)، وسئل عن هذه الآية: {فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: كيف يشرح صدره يا رسول اللّه؟ قال: (نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح)، وقالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: (الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت) "وراه عبد الرزاق، وابن جرير بنحوه وأخرجه ابن أبي حاتم كما في الرواية الأخرى". وعن عبد اللّه بن مسعود قال: تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية: {فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام} قالوا: يا رسول اللّه ما هذا الشرح؟ قال: (نور يقذف به في القلب)، قالوا يا رسول اللّه فهل لذلك من أمارة تعرف؟ قال: (نعم)، قالوا: وما هي قال: (الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت) "رواه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: ولهذا الحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً".
وقوله تعالى: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً} حرجاً بفتح الحاء والراء، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليه شيء من الإيمان ولا ينفذ فيه، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه رجلاً من الأعراب من أهل البادية من مدلج عن الحرجة؟ فقال: هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر رضي اللّه عنه: كذلك قلب المنافقين لا يصل إليه شيء من الخير. وقال ابن عباس: يجعل اللّه عليه الإسلام ضيقاً والإسلام واسع، وذلك حين يقول: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} يقول: ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق. وقال مجاهد والسدي: {ضيقاً حرجاً} شاكاً، وقال عطاء الخراساني: {ضيقاً حرجاً} أي ليس للخير فيه منفذ، وقال ابن المبارك: {ضيقاً حرجاً} بلا لا إله إلا اللّه حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه، {كأنما يصَّعد في السماء} من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جبير: {يجعل صدره ضيقاً حرجاً} لا يجد فيه مسلكاً إلا صعد. وقال عطاء الخراساني: {كأنما يصعد في السماء} يقول: مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء، وقال ابن عباس: {كأنما يصعد في السماء} يقول: فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان في قلبه حتى يدخله اللّه في قلبه، وقال الأوزاعي: كيف يستطيع من جعل اللّه صدره ضيقاً أن يكون مسلماً. وقال ابن جرير: وهذا مثل ضربه اللّه لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه يقول: فمثله في امتناعه عن قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه، لأنه ليس في وسعه وطاقته، وقال في قوله: {كذلك يجعل اللّه الرجس على الذين لا يؤمنون} يقول: كما يجعل اللّه صدر من أراد إضلاله ضيقاً وحرجاً، كذلك يسلط اللّه الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان باللّه ورسوله فيغويه ويصده عن سبيل اللّه، قال ابن عباس: {الرجس} الشيطان، وقال مجاهد: {الرجس} كل ما لا خير فيه.
الآية رقم (126 : 127)
{ وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون . لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون }
لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادين عنها، نبّه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق، فقال تعالى: {وهذا صراط ربك مستقيماً} أي هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط اللّه المستقيم، كما تقدم في الحديث في نعت القرآن: {هو صراط اللّه المستقيم، وحبل اللّه المتين وهو الذكر الحكيم} "رواه أحمد والترمذي عن علي كرم اللّه وجهه وهو حديث طويل"، {قد فصلنا الآيات} أي وضحناها وبيناها وفسرناها {لقوم يذكرون} أي لمن له فهم ووعي يعقل عن اللّه ورسوله، {لهم دار السلام} وهي الجنة {عند ربهم} أي يوم القيامة، وإنما وصف اللّه الجنة ههنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم فكما سلموا من آفات الأعوجاج أفضوا إلى دار السلام، {وهو وليهم} أي حافظهم وناصرهم ومؤيدهم، {بما كانوا يعملون} أي جزاء على أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة بمنه وكرمه.
الآية رقم (128)
{ ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم }
يقول تعالى: {و} اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به، {يوم يحشرهم جميعاً} يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً {يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس} أي يقول يا معشر الجن، وسياق الكلام يدل على المحذوف، ومعنى قوله: {قد استكثرتم من الإنس} أي من إغوائهم وإضلالهم، كقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم}، وقال ابن عباس: {يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس} يعني أضللتم منهم كثيراً، {وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض}: يعني أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين للّه تعالى عن ذلك بهذا، قال ابن أبي حاتم عن الحسن في هذه الآية قال: استكثرتم من أهل النار يوم القيامة، فقال أولياؤهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، قال الحسن: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس "أخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن البصري". وقال ابن جريج: كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول: أعوذ بكبير هذا الوادي، فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة، وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان - فيما ذكر - ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم، فيقولون: قد سدنا الإنس والجن {وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا} قال السدي: يعني الموت، {قال النار مثواكم} أي مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم، {خالدين فيها} أي ماكثين فيها مكثاً مخلداً إلا ما شاء اللّه، قال بعضهم: يرجع معنى الاستثناء إلى البرزخ، وقال بعضهم: هذا رد إلى مدة الدنيا، وقيل: غير ذلك من الأقوال، وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء اللّه إن ربك حكيم عليم} قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على اللّه في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً.
الآية رقم (129)
{ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون }
قال قتادة في تفسيرها: إنما يولي اللّه الناس بأعمالهم، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، واختاره ابن جرير، وعنه في تفسير الآية: يولي اللّه بعض الظالمين بعضاً في النار يتبع بعضهم بعضاً. وقال مالك بن دينار: قرأت في الزبور: إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين، ثم أنتقم من المنافقين جميعاً، وذلك في كتاب اللّه قول اللّه تعالى: {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً}، وقال ابن أسلم: قال ظالمي الجن وظالمي الإنس، وقرأ: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين} أي ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس، وعن ابن مسعود مرفوعاً: (من أعان ظالماً سلطه اللّه عليه) "رواه الحافظ ابن عساكر، قال ابن كثير: وهو حديث غريب". وقال بعض الشعراء:
وما من يد إلا يد اللّه فوقها * ولا ظالم إلا سيبلى بظالم.
ومعنى الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين نسلط بعضهم على بعض ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم.
الآية رقم (130)
{ يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين }
وهذا أيضاً مما يقرع اللّه به كافري الجن والإنس يوم القيامة حيث يسألهم وهو أعلم: هل بلغتهم الرسل رسالاته، وهذا استفهام تقرير، {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} أي من جملتكم والرسل من الإنس فقط وليس من الجن رسل، كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف. وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم ومن الجن نزر، وحكى ابن جرير عن الضحاك: أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة، وفيه نظر، لأنها محتملة وليست بصريحة وهي، واللّه أعلم، كقوله: {مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان}، إلى أن قال: {يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان} ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من الملح لا من الحلو، وهذا واضح وللّه الحمد. وقد ذكر هذا الجواب بعينه ابن جرير، والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده}. وقوله تعالى عن إبراهيم: {وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته، ولم يقل أحد من الناس إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق}، وقال: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى} ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب، ولهذا قال تعالى إخباراً عنهم: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم}، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا} أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك، وأن هذا اليوم كائن لا محالة. وقال تعالى: {وغرتهم الحياة الدنيا} أي وقد فرطوا في حياتهم الدنيا وهلكوا بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم للمعجزات، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها، {وشهدوا على أنفسهم} أي يوم القيامة {أنهم كانوا كافرين} أي في الدنيا بما جاءتهم به الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم.